مع جدتى بقلم جهاد نوار
اجمل اللحظات و انا صغيرة، عندما اصحو فى الصباح، لأجد جدتى تستعد للذهاب إلى دمياط.
و تخبرنى اننى سأكون معها، فأسالها من أين
سنذهب؟تقول البحر.
فتزداد سعادتى، سنذهب غربا عبر النيل، و نستقل الاتوبوس النهرى،او الفلوكة الشراعية.
كانت رحلة جميلة، فالاتوبيس يرحل بنا باتجاه الجنوب، محاذيا الشاطئ، عكس الفلوك التى تتجه فى عرض النيل لننزل على الشاطئ المقابل.
كان النيل صافيا بلا كورنيش، و لا اى حواجز تشوه شاطئه الجميل.
حيث تتدافع موجاته، لتضرب الرمال محملة
بالقواقع، و أصداف مبهرة بلونها الجميل.
و تلقى معها ما يحمله النهر من معاناة.
كان يأخذنى صوت الموج، و مع صوت موتور الاتوبيس، فلا استمع لما حولى، و اتابع النخيل المنضدد على جانبى النهر كأنما تلك النخيل جنود تحرس نهرنا السارح.
فتنبهنى جدتى بقربنا من ارضنا،غربا و شرقا و ما يفعله. الفلاحون المستأجرون بنخيل البلح الخاص بنا،حيث يقومون بجَنيه،فى مشهد رائع.
يتسلق كل منهم نخلة شامخة،فيجردها من
ثمارها التى تحولت عبر عام من اخضر لأحمر،و بعد قليل اسود داخل منزلنا.
كنت دوما اسأل عن تفاصيل الأشياء،و كيف
تكون البداية لكل عمل،فلا تبخل على بإجابة
شافية.
يظل الاتوبيس يقطع الأمواج،حتى يقف امام الكوبرى،لكى ننتقل إلى المدينة،و هناك
تقف العربات التى يجرها حصانان و هى
المرحلة الاصعب لدى.
الحنطور كان يخيفنى صوت الحصان، و نفوره عندما يبدأ فى الانطلاق.
لكن سرعان ما يختفى هذا الشعور، بمجرد
أن يبدأ الطريق فى المسير، و ليس نحن؟
هكذا كنت أرى الأرض تمشى، كل شئ يجرى
مسرعا و نحن جالسون.
حتى النيل على يمينى يتراجع للوراء، و النخيل، تدور بسرعة رهيبة،فقد كنت اظن
أن الارض تمشى،حتى كبرت و علمت انه
القصور الذاتى.
فأنسى خوفى،و انصت لصوت اقدام الخيل
و تلك النغمة المصاحبة، و تمايلها فى رشاقة
عندما تبطئ،و ذيل الحصان الشبيه بشعر
المرأة الحسناء،حين تتدلل فى مشيتها،
فيقطع صمتى، صوت السائق القاسى، لما يضربها، كل فترة حتى تكون لحظة النزول،
و هنا تبدأ رحلة جديدة، لكن تنقلا بين المحلات المكتظة بالأقمشة، و الأحذية، و الايس كريم اقصد جلاس، و كاساتا.
و السينما، نمر عليها،فتأخذنى لمشاهدة فيلم
جديد،قبل العودة
كلها مشاهد محفورة بالذاكرة، بدءا من ظِلى الذى اراه يصاحبنى يطول و يقصر،أو يختفى.
ذكريات بعبق الماضى تحمل رائحة الفل
و الياسمين،عطور الجدة المحببة.
و تنقلاتنا معا،لأنها تفضل ان تصحبنى دون
غيرى من أحفادها،صباحا أو مساء.
تشترى لى كلما أحب،قبل طلباتها التى نزلت لأجلها،تتفنن فى جعل التسوق نزهة جميلة.
فنعود لجزيرتنا،من الناحية الشرقية،اى الطريق البرى،لكن داخل الاوتومبيل،ليمر بنا
فوق القنال،الذى يصل النيل بالبحيرة.
فنحن محاطون بالنيل و البحر و البحيرة
و قنال،جزيرة خضراء،وسط الماء صباحها
إشراقة شمس تطل فى حياء.
و اصيلها ظلال اشرعة السفن العائدة من
رحلاتها البحرية،محملة بأشهى الاسماك.
و مساؤها سماء ممتلئة بالنجوم التى تطل
من بعيد،ملتفة حول القمر،كأنهن نساء
تأنقنّ لحضور حفل عرس فى عمق الفضاء
كل شئ لامع،صمت لا يقطعه سوى صوت
المذياع،او نهاية الارسال.
و الكل جلوس للاستماع لما هو أجمل من
كل الحكاوى.
صوت الجدة تحكى حدوتة قبل النوم،مع ما
تحفظه من اشعار الف ليلة و ليلة.
و ما حملته من امهات الكتب،للاصفهانى و الجاحظ،و غيرهما لتلقى بهما على اسماعنا
فمنها قرأت سماعيا كليلة و دمنة،و تصفحت
كتاب الأغانى للاصفهانى بصوتها الهادئ
الرزين.
تعلمت منها قبل أن اخطو داخل محراب العلم،سواء الحضانة او المدرسة،لقد كَونت وجدانى مع والدتى،و أبى الذى كان يملأ
المنزل بكتبه و جرائده المفضلة.
فى وقت كان من فى مثل سنى،يغط نوما
لا يفرق بين الشعر،و القصة،و الاسطورة.
بين المجلة و الجريدة،و المعجم،و القاموس
كم من حكايات روتها لنا،كقصص الانبياء
و قصص من الخيال،و اخرى من الحياة
كعبرة و إفادة.
كانت تحفظ الشعر الفصيح،الذى علمت فيما
بعد انه شعر القدامى،و الذى احببته منها.
و كم تذكرتها حينما صادفنى بعض منه فى
كتب الدراسة،فيما بعد.
جدتى التى أثرت فكرى،و زودتنى بطاقة
إبداعية،و علمتنى ألا أبدد وقتى فيما لا يفيد
هكذا كانوا يجيدون التربية،و التعليم و التقويم.
رغم مؤهلهم البسيط،لكن استطاعوا ان يكونوا مورد علم و ثقافة و اطلاع ليبنوا
جيلا فتيا خالى من صدأ الفكر،لمتابعتهم كل ما يفيد الروح و يجدد الفكر،و يثقل الموهبة
١٧ سبتمبر ٢٠٢١
جاردى انا
تعليقات
إرسال تعليق